هلع في البداية، ثم حذر، ثم احتفال بنهاية الأزمة، هذه ليست مجرد أزمة جيوسياسية عابرة، بل إنها اختبار نادر لقدرة الرأسمالية على مواجهة النيران من دون أن تحترق.
وبين صعود الذهب والنفط، وانهيار العملات المشفرة ثم انتعاشها، خطت الأسواق نهاية درامية مختلفة تماماً عما توقعه كثر، فما الذي حدث تحديداً؟ ولماذا بدت الأسواق أقوى من الخوف؟
المشهد الأول... لحظة الانفجار
منذ الساعات الأولى لانفجار المواجهة، ضرب فزع جماعي الأسواق العالمية، وتحولت شاشات التداول إلى اللون الأحمر، إذ شهدت الأسهم العالمية عمليات بيع عنيفة، وسط قلق حقيقي من اندلاع حرب شاملة قد تشعل منطقة الشرق الأوسط بأكملها.
وفي غضون ذلك هرع المستثمرون نحو الملاذات الآمنة وعلى رأسها الذهب الذي قفزت أسعاره نحو ثلاثة في المئة خلال أول جلستَي تداول بعد الحرب، وارتفعت أسعار النفط أكثر من ثمانية في المئة خلال 48 ساعة وحسب، مدفوعة بمخاوف من إغلاق مضيق هرمز، شريان الطاقة العالمي.
أما الدولار الأميركي، فاستفاد من حال الهلع مع تدفقات هائلة للسيولة الباحثة عن الأمان النسبي، بينما سقطت العملات المشفرة في البداية مع اتجاه المستثمرين لتسييل مراكزهم بحثاً عن السيولة النقدية.وفي ختام اليوم الأول من الحرب، بدت الأسواق وكأنها تدفع ثمن الخوف دفعة واحدة، إذ تكبدت الأسهم العالمية خسائر تجاوزت 2.8 في المئة في "وول ستريت" وأكثر من أربعة في المئة في الأسواق الأوروبية، فيما قفزت أسعار النفط إلى مشارف 82 دولاراً للبرميل، وسجل الذهب أعلى مستوياته عند 3334 دولاراً للأونصة مدفوعاً بذعر المستثمرين، بينما ارتفع الدولار الأميركي بنسبة 1.1 في المئة بفعل موجات الشراء بحثاً عن ملاذ آمن، في وقت هوى سعر "بيتكوين" إلى 100 ألف دولار مع تسييل المكاسب في سوق العملات المشفرة.
وهبطت عوائد السندات الأميركية إلى أربعة في المئة نتيجة اندفاع السيولة نحو أدوات الدين الحكومية باعتبارها أكثر أماناً وسط غبار التصعيد العسكري.
خوف ثم حذر
وعلى رغم تصاعد العمليات العسكرية، بدأت الأسواق تدريجاً تظهر سلوكاً أكثر برودة وتوازناً تجاه الأخبار المتسارعة، وبدأ المستثمرون يبحثون خلف العناوين العاجلة لمعرفة الحقائق، هل هناك إغلاق فعلي لمضيق هرمز؟ هل تدخل واشنطن مباشر أم مجرد دعم سياسي لتل أبيب؟
ومع مرور الأيام، تعافت الأسواق بصورة تدريجية وقلصت الأسهم جزءاً كبيراً من خسائرها بعد تأكيدات الإدارة الأميركية أن تدخلها سيكون محدوداً.
أما أسعار النفط، فظلت متذبذبة لكنها حافظت على مكاسب نسبية، والذهب تعرض لموجات بيع جزئي مع كل إشارة تهدئة، والعملات المشفرة استعادت بريقها تدريجاً بدعم من توقعات بضخ سيولة إضافية عالمياً.
المشهد الأخير... تجاهل محسوبفي اليوم الـ12، ومع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين طهران وتل أبيب، لم تكُن الأسواق في حال ارتباك، بل تعاملت مع النبأ وكأنه كان متوقعاً مسبقاً.
ورد الفعل جاء كاحتفال بنهاية الأزمة، خصوصاً في أسواق الأسهم التي سجلت أفضل أداء يومي منذ بداية العام، وانهارت أسعار النفط سريعاً لحدود 75 دولاراً للبرميل، وخسر الذهب مكاسبه بالكامل تقريباً، مغلقاً عند 3351.47 دولار للأونصة بعد أن لامس 3368 دولاراً.وقفزت العملات المشفرة بقوة، وصعد سعر "بيتكوين" إلى 106430 دولاراً، بمكاسب تجاوزت 10 في المئة خلال آخر ثلاثة أيام من عمر الحرب، وارتفع عائد السندات الأميركية إلى 4.3 في المئة مع عودة شهية المخاطرة.
كيف أغلقت الأسواق مع نهاية الحرب؟
لم تكُن نهاية الحرب مجرد إعلان سياسي، بل إعلاناً اقتصادياً بانتهاء حال الطوارئ في الأسواق العالمية، وعادت الشهية للأصول الخطرة وتحول المشهد من خوف إلى إقبال.
وقادت الأسهم العالمية موجة الصعود بمكاسب تجاوزت ثلاثة في المئة في "وول ستريت" وفقد النفط جميع مكاسبه تقريباً وعاد لـ85 دولاراً، والذهب تعرض لموجة بيع مكثفة ليغلق عند 3351.47 دولار.وقادت العملات المشفرة الارتداد وقفزت "بيتكوين" بقوة، وعائد السندات الأميركية ارتفع إلى 4.3 في المئة، وبدت الأسواق وكأنها تغلق دفتر الحرب بعبارة واحدة "لقد انتهى الفيلم... ولن ندفع ثمن الخوف ما دام أن النيران بقيت بعيدة من شرايين الاقتصاد العالمي".
تحليلات مستقبلية... هل انتهى الخطر؟
وعلى رغم مظاهر الارتياح، تحذر مؤسسات الأبحاث من أن ما حدث لا يعني زوال الخطر بصورة كاملة، فـ"كابيتال إيكونوميكس" رأت أن تجاهل الأزمات قصيرة الأجل قد يكون خادعاً إذا ما تحولت المواجهات إلى صدام يؤثر في تدفقات الطاقة أو التجارة.
في المقابل، ترى "جيه بي مورغان" أن الأسواق باتت تمتلك أدوات أكثر تقدماً لتحليل الأخطار واستيعاب الصدمات، بشرط أن تبقى الأزمات محلية ولا تتحول إلى صدام عالمي شامل.
مناعة مكتسبة... إلى متى؟وأثبتت هذه الأزمة أن الأسواق أصبحت أكثر تمرساً في التعامل مع الأخطار الجيوسياسية مقارنة بما كانت عليه قبل عقد مضى، وأن المستثمرين باتوا أكثر قدرة على فصل السياسي عن الاقتصادي ما لم تصل النيران إلى عصب الاقتصاد العالمي، لكن يبقى السؤال معلقاً، هل ستصمد هذه المناعة إذا جاء التصعيد المقبل أكثر عنفاً؟ أم أن الأسواق ستفقد أعصابها من جديد إذا شعرت بأن هذه الحروب باتت تمس العمود الفقري للنظام المالي العالمي؟ الإجابة... في يد المستقبل وحده.
اندبندنت عربية