الدكتور دريد درغام يكتب عميقا :
ثورات لا تتوقف ضد الإفقار الممنهج ومراكمة الثروات في أيدي القلة



لا يتوفر وصف للصورة.

  تعرية متوقعة للعالم الرأسمالي والاستهلاكي


كتب الدكتور دريد درغام
في التاريخ يوجد قفزات علمية أو إدارية أو اقتصادية حيث استطاعت بعض الحكومات في بعض الدول الاستفادة منها من أجل تحليل تاريخها والتصالح معه وتحليل واقعها وحقيقة سكانها وبلورة هوية لهم ومن ثم الانطلاق نحو مستقبل يستطيع أن يلبي تطلعات الجميع للوصول إلى فرص عمل أفضل وأكرم وأكثر استدامة:
1. فمنها من قام بتطويع البحث العلمي والمكننة لزراعة أكثف وأغنى
2. ومنها من يعتقد أن كثافة المتعلمين وخريجي الجامعات تكفي لتحقيق التقدم متجاهلين أن الغرب سعيد جداً بتحديث خبرات ومناهج العالم الفقير لتلبي مجاناً أكبر قدر ممكن من احتياجاته فهو يعلم أن العالم الفقير وإن قدم بعض المشاريع وفرص العمل فإن معظم أبنائه غارق في البطالة وأدمن معظمه شاشات العالم الافتراضي.
3. وفي حين اعتمد البعض على تصدير منتجاته قام البعض الآخر بتصدير سكانه (للأعمال غير المرغوبة من قبل الشعوب المتقدمة أو للأعمال الراقية نظراً لرخص تلك العقول مقارنة بتنشئتها في دول الغرب)
4. ومن دول العالم النامي من وجد في القطاع العام والحكومي مخزناً جيداً لمراكمة مختلف أنواع الشهادات والخبرات حيث يمارس "الدوام" اليومي دون أي عمل جدي يذكر. والهدف كما يقول بعض المنظرين "الرمد أفضل من العمى" وبالتالي إيجاد فرصة دوام براتب مهما اضمحل أفضل من بطالة تهدد السلم الأهلي.
5. ومنها من رفضوا التبديل وبقوا على ما وجدوا عليه آباءهم وما بدلوا تبديلا فاستحقوا مختلف أنواع المنح والمساعدات إن وجدت طريقها إلى أفواههم
ومنذ خمسين عاماً زاد اعتماد العالم المتقدم على عالم الخدمات لتعويض النقص الحاد في فرص العمل ولضمان وجود جحافل من الزبائن لعالم استهلاكي جل خدماته لا معنى لها. فقد وصل الأمر إلى تناقض حاد في النهج الاقتصادي حيث:
 . يتوجب على الجميع البحث عن فرصة عمل وبالوقت نفسه وصل التطور بعالم الخدمات إلى درجة إقناع أكبر قدر ممكن من الناس بالبقاء في المنازل لتصلهم مختلف الخدمات والوجبات والرعاية وغيرها.
  ما زالت جامعات ومدارس الاقتصاد تفترض أن الاستهلاك يشكل الجزء الأكبر من الناتج مع أن العالم المتقدم تعصف به ثورات لا تتوقف ضد الإفقار الممنهج ومراكمة الثروات في أيدي القلة على حساب الأكثرية المسحوقة. أما في العالم الفقير فالفوارق الطبقية أكثر وضوحاً ولكن حجم القدرية فيها وانتظار الجنة ما بعد الحياة يخفف من غلواء تلك الفوارق
  تقوم مبادئ الدستور والتربية في مختلف دول العالم على مبدأ أن العمل المأجور واجب يستدعي احترام من يحصل عليه. بينما ينظراً بازدراء لكل من لا عمل لديه. وهنا تقف النسبة العظمى من الشباب الصاعد أمام موقف مخزي حيث إذا قبلوا العمل فهو غير متوافر وإن توافر فهو بثمن بخس وبالوقت نفسه مطلوب منهم تأمين حياة كريمة وتكوين أسرة لتحقيق الحد الأدنى من السلام الداخلية وتلبية المتطلبات الدنيا من الإنسانية. وفي العالم النامي يكون التناقض أكبر نظراً للدفق الكبير من المواليد الجدد الذين يأتون ويفترض بالإله أن يتكفل بإرسال رزقهم. وهذا القناعة مستمرة رغم قرون طويلة جداً من الفقر المدقع الذي إن خفت وطأته لسنوات فإنها تسحق لعقود وقرون.
حالياً يشهد العالم ثورة حقيقية قد يكون لها بعض المساوئ ولكنها ستغير مسار التاريخ بكل معنى الكلمة وهي ثورة "تشات جي بي تي" الذي طرح قبل أشهر من قبل شركة "أوبن إيه آي" التي تسيطر عليها شركة مايكروسوفت. وستؤدي هذه الثورة إلى تغييرات جوهرية وبالأخص على العالم النامي:
 - يلاحظ أن معظم المداومين في القطاع العام والخاص في كل من العالم المتقدم والفقير يعملون في مجال الخدمات وبالتالي ومع تزايد الضغط على الحكومات والشركات وتأثرها بموجات الركود العالمي وزيادة معدلات التضخم ونقص الموارد المالية فإنهم سيقومون (وفي القطاع الخاص في العالم الفقير وفي كل القطاعات في العالم المتقدم) بعمليات تسريح مكثفة ستؤدي إلى زيادة بالإفقار ونقص في حجم الإرساليات المالية التي يقدمها المغتربون إلى ذويهم في العالم الفقير.
- بنيت المدارس والجامعات على فكرة التعليم مع وظائف ومهام ومشاريع تستغرق أحياناً ساعات أو أيام أو أسابيع ولكن هذا المحرك سيغير مناهج العلم والتعليم حيث أصبح بالإمكان حل المعادلات وتصحيح البرمجيات وإنشاء حلقات البحث ومختلف المشاريع خلال "دقائق" وبمهنية عالية من خلال هذه الأداة الجديدة. وهنا يصبح السؤال هل سيتحول التدريس بمختلف مراحله إلى طقس من أسئلة المدرسين وأجوبة يحضرها الطلاب بدقائق عبر هذا النوع من التقانات دون أي تعمق جدي في حقيقة ما يكتبه البرنامج لهم (فمعظمهم سيفضل متابعة المباريات وغيرها من مكونات المجتمع الاستهلاكي الرائج بقوة منذ سنوات)
- في ظل التناقص المتوقع لفرص العمل في عالم الخدمات سيبقى الازدهار الوحيد لفرص العمل اليدوية والتي تتطلب الكثير من الجهد والمواظبة والبؤس وخاصة في عالم البناء والنظافة والزراعة وغيرها. وهنا سيكون للأسف التنافس الجديد المرتقب بين الوافدين من دول العالم الفقير الذين سيضطرون للقبول بظروف عمل أقرب إلى العبودية من أي شي آخر. وبذلك يعود التاريخ إلى بدايته كما كان في شرعة حمورابي وفي أثينا وفي روما حيث يتواجد الأسياد في الأعلى وترزح باقي الطبقات في الأدنى بشكل متفاوت حسب كونهم في منظومة الحكام أو المحكومين من عامة أو عبيد.
- سيأتي وقت يسأل فيه أصحاب القرار عن جدوى الاستمرار في هدر موارد مالية وبشرية على جامعات وكليات لم يعد لها مبرر فالخريج الجامعي منها يقف حائراً امام قدرات تلك البرامج الجديدة التي تجعله قزماً في معلوماته. وهنا يبقى السؤال معلقاً متى ستتوقف بعض البلدان عن الاستمرار بضخ خريجين لديهم شهادات جامعية تعلق على الجدران لكن لا معنى ولا نفع لها في أسواق العلم والعمل الجديدة.
-ومع تقدم العلم سيصبح تغيير مناهج الأطفال والشباب ضرورة لأن جزءاً كبيراً من الحشو المتعارف عليه حالياً من تاريخ وجغرافيا وإعراب وغيرها مما يمكن الاستغناء عنه بحيث تصبح كلها مادة واحدة تشجع على الفكر الحر الذي يتقبل الآخر ويفكر بشكل منفتح على آفاق علم افتراضي يسمح بالوصول إلى كل التاريخ وليس بعضه المجمل والمحقون بالكثير من الكذب أو النفاق.
-مع تقدم العلم لا بد من إنشاء معاهد أو شهادات تخصصية لسنة أو أقل تسمح على الأقل بكيفية التعامل مع هذا العالم الجديد وتعلم كيف تطرح الأسئلة عليه وكيف تتجنب التوجيه المقصود من قبل بعض إجاباته لتدجين العقول بطريقة لم تكن معهودة سابقاً
في النهاية سيكون أمام كل دولة أسئلة عويصة بعضها من طبيعة تقليدية حول التنمية والنمو وغيرها من مخاتلات العالم الاستهلاكي وبعضها من طبيعة مشابهة لما ذكر أعلاه وبعضها وهو الأهم سيكون حول كيفية التعامل مع جحافل بشرية موجودة وترغب بالاستهلاك والترف المروج له في وسائل الاعلام وفي عالم الخدمات ولكنها في الوقت نفسه لم تعد قادرة على إيجاد لقمة العيش. وهنا تبدو الحلول أكثر من أي وقت مضى من طبيعة إنسانية معممة تتطلب من جميع البلدان توحيد جهودها معرفة كيفية التعامل مع الفوائض البشرية القادمة ومع طبيعة الاقتصاد القادم وهل يستمر الفكر الرأسمالي المنتصر حتى الآن في العالم النامي والمتقدم على حد سواء مع أن النتيجة واضحة من حيث استعباد طبقة ذوي الثروات في كل مكان لباقي البشر المحرومين من التفكير لأنهم إما جهلة وعراة جائعون أو أنهم متعلمون ولدى معظمهم عدة أعمال يومية (لإكمال آخر الشهر) أو عدة وظائف في العمل والمنزل وبالتالي لا يسمح لهم حجم المهام المطلوبة إلا باليأس أو الهروب للأمام وإنجاب المزيد من الأجيال الحائرة.
 



المصدر:
http://www.syriasteps.net/index.php?d=131&id=194735

Copyright © 2006 Syria Steps, All rights reserved - Powered by Platinum Inc