سيرياستيبس :
كتب الدكتور دريد درغام - حاكم مصرف سوريا المركزي سابقاً
نقدر مختلف مقترحات المهتمين والمختصين بالشأن النقدي حول موضوع التوقيت والنوعية والفئات والكيفية وغيرها ولكن هنا سنحاول الإضاءة على نقاط إضافية لا بد وأن المختصين قد أخذوها بالاعتبار:
منذ سقوط نظام الأسد، أصبح الدولار مقبولاً بالتعاملات كالليرة (الدولرة الجزئية) مما خفف الحاجة الملحة لطباعة أوراق نقدية جديدة بدون تغطية لتمويل السوق الداخلية (الأسلوب السابق الذي تسارع مع موجات تضخمية غير مسبوقة).
نعلم أن الدولرة الجزئية سلاح ذو حدين فهي من جهة تخفف الضغط على سعر الصرف حيث لا تعود الليرة مجدية أو مطلوبة في معظم التبادلات التجارية الكبيرة (تصبح بالدولار الأمريكي). ومن جهة أخرى هي تقلص الهوامش الحكومية في المناورة الاقتصادية التي تحتاجها الدول للطباعة والتمويل بالعجز أحياناً في الازمات "فقط" دون أن "تدمن" ذلك النموذج (كان نموذج سوريا طوال القرن الماضي والحالي والدليل التناقص المستمر بالقدرة الشرائية لخل السوريين خلال 100 سنة تقريباً).
في الدول التي تعتمد الدولرة الجزئية لا تستبدل العملة إلا في حالات ضرورية ومنها الحاجة لاستعادة حيوية السياسة النقدية، وتأكيد الثقة بقدرات الاقتصاد، أو تحسين مزايا منع التزوير في الفئات النقدية وزيادة أعمارها ومقاومتها للبكتريا بالتقانات الحديثة (منها البوليميرات).
في جميع الأحوال وبغض النظر عن الأسباب التي دعت لقرار استبدال العملة وقد تكون وجيهة مهما تكن مكلفة، فإننا نورد فيما يلي بعض الأفكار المتواضعة عسى أن يكون فيها منفعة لتخفيف الأعباء المستقبلية التي قد تواجه السوريين في هذا المجال:
حسب الإحصاءات الرسمية في عام 2010 كانت نسبة الأوراق النقدية من فئة 1000 ليرة أكثر من 55% ومن فئة 500 ليرة أكثر من 35% وتوزع الباقي بين الفئات الصغيرة من ورق ومعدن. في السنوات الماضية لا تتوافر إحصاءات ولكن يتوقع أن يكون جل القيم النقدية الحالية في التداول من فئة 5000 و2000
يمكننا أن نفرض وسطيا بين الفروع الكبيرة والصغيرة للمؤسسات النقدية المعنية بالتبديل (مصارف وشركات صرافة ومكاتب بريد) أنه في كل فرع أو مركز تم تخصيص 2-3 موظفين لتبديل العملات القديمة (حيث لا يجوز التأثير على استمرارية باقي الأنشطة المصرفية والمالية؛ ويجب الإبقاء على نوافذ العمل اليومي من فتح حسابات وحوالات وغيرها). وبفرض وجود أجهزة "حديثة" للعد والفحص والرزم الكافية وعدم الانشغال بالعد اليدوي للأوراق المهترئة، وبفرض التوزيع العادل لتلك التجهيزات والموظفين بين المحافظات وبين الريف والمدينة سنجد في هذه الحالة المثالية أن حوالي 3000 موظف نقدية يعملون يومياً لمدة 8 ساعات سيكفي لتبديل الفئات الحالية في بضعة أشهر كما يتحدث عنها البعض. ولكن المشاكل كالعادة تكمن بالتفاصيل حيث:
• يمكن أن تكون سرعة التبديل كبيرة إن كانت عمليات تبديل فقط دون السؤال عن المصدر أو تعبئة استمارات مسبقة لأنها ستؤثر على الزمن سواء ملأها المتعامل أو الموظف
• هل يحق للشخص تبديل الأموال أكثر من مرة أم يجب عليه التصريح المسبق بالقيمة المطلوب تبديلها ولا يجوز له العودة لتبديل مبالغ إضافية ؟
• في حال وجود تدقيق على عدد مرات التبديل او من اين لك هذا سنشهد طوابير هائلة من قبل المندوبين عن الراغبين بتجنب المساءلات (أسوة بما حدث في عدة مناسبات ومنها موضوع بيع 10 آلاف دولار لأي سوري وهذه كان حجمها أقل بكثير من الطوابير المتوقعة وخاصة في المدن الكبيرة). وهنا من المفيد أن نتذكر أن الهند حاولت في تجربتها أن تتعرف على أصحاب الثروات "السوداء" ولكن تجربتها أكدت استبدال أكثر من 99% من الكتلة النقدية دون الوصول إلى المرام المذكور؛ مما يدفع للتساؤل عن حقيقة الاقتناع المغلوط بأن الثروات غير النظامية قد تكون بالكاش!
• في ظل احترام الجندرية "موضةً أو تديناً" هل ستخصص طوابير للنساء والرجال؟ وما أثرها على الأداء العام؟
• قد يسارع البعض (لتجنب مشاكل التبديل) لتبديل الأوراق القديمة أو الباطلة بسلع مختلفة وخاصة الثمينة منها (كالذهب والمقتنيات الثمينة) أو الضرورية منها (أدوات كهربائية وغيرها من السلع المعمرة والضرورية لتجار نصف الجملة والمفرق). كما أن حذف صفرين سيساعد التجار على تدوير الأسعار للقيمة الأعلى. وكل هذا سيؤدي إلى موجات تضخم غير مبررة على الإطلاق وستكون على حساب المواطن العادي
• إن كانت الأوراق النقدية الجديدة من قياسات مختلفة عن القديمة فهذا سيؤدي إلى فقدان مؤقت لوظيفة عدد كبير من الصرافات الآلية التي سيخصص بعضها للعملة الجديدة وبعضها للقديمة في فترة "السماح". مما سيؤدي إلى ضياع وقت طويل في ضبط وتعديل أدراج تلك الصرافات على القياسات الجديدة.
• في ظل الوضع الأمني الحالي وغياب التغطية المالية والمصرفية بين المناطق، قد يعاني كثير من أهل الريف والقرى والمناطق أو الأحياء النائية من صعوبة في إيجاد الوقت الكافي للانتظار في طوابير طويلة لعدة مرات أو أيام ليتمكنوا من تبديل ما لديهم من اموال.
• بعض الأموال موجودة في الخارج لدى المغتربين والتجار والسماسرة وتجار العملة وهذا يتطلب مقاربة مختلفة لكل من هذه الحالات بما يضمن عدم تكرار تجارب الدول الأخرى التي عانت في هذا المجال واضطرت إلى تعديلات وتمديات خاصة من أجلهم.
• بسبب سياسة حبس السيولة كان بعض "مكتنزي الأموال" يجدون في حيازة أوراق بالليرة السورية فرصة استثمارية رابحة حيث أصبح سعر الخصم مغرياً (لتبديل أموال حسابات محبوسة بأموال كاش). هل ستتاح الأوراق الجديدة لمن يرغب من اصحاب الحسابات القديمة المحبوسة؟ أم ستستمر القيود عليها وبالتالي ستبقى سياسة الكاش هي الأساس في الاقتصاد السوري وعندها لن يستفاد من التجربة سوى بالهروب إلى الأمام وتشكيل المزيد من التضخم.
• إن كان الهدف هو تشجيع المنظومة المصرفية فالتفكير يجب أن يكون موجهاً لمنظومة دفع إلكتروني متكاملة تأخذ بالاعتبار الكثير من المزايا (سلاسة التحويل وتحريك الأموال بالحوالات والبطاقات والمحافظ؛ فضلاً عن كيفية إعادة رسملة المصارف الحالية ودمجها ) والخطايا (مشاكل العملات الرقمية غير المنضبطة والانغماس في تعاملات مالية لا علاقة لها بالانتاج الحقيقي.. وهو أمر مفهوم في الاقتصادات المنتجة المستقر، ولكن في البلدان المدمرة الخارجة من حرب غير مسبوقة يتطلب الأمر حواراً أعمق حول جاهزية البنية التحتية للدفع الإلكتروني (وهذا الدفع هو الأهم) ودور السياسة النقدية والدولرة في نموذج التنمية الاقتصادية المرتقب وقدرة الدولة على المناورة في أي نموذج سعر صرف مدار
• الأوراق النقدية أولاً وأخيراً عبارة عن قاعدة نقدية تسمح بالخلق النقدي المصرفي. وبالتالي بغياب الثقة بالمصارف لا يكون هناك أي مضاعف نقدي ولن تتواجد مقومات تمويل التنمية الاقتصادية التي تفترض وجود قدرة على الادخار وثقة بالمصارف لتجميع المدخرات وقدرة على معرفة المستثمرين الجديين لإقراضهم وصولاً على الأمد البعيد لتوظيف سيولة اكبر في الأسواق المالية التي تتطلب شفافية لا تتوافر لدى معظم المستثمرين في سوريا.
• إذا تم الإعلان عن تبديل مفاجئ بكل الفئات النقدية، ستظهر مشاكل سيولة غير مسبوقة، حيث سيتوقف التجار عن قبول العملة القديمة التي سينفر منها الجميع لما ستسببه للتجار خصوصاً من أعباء في التبديل اليومي. كما أن نقص السيولة المفاجئ سيؤدي إلى توقف عمل الكثير من المهن التي تعتمد على الأوراق النقدية "الكاش". لذا يتطلب الأمر على الأقل التفكير "بعدم" سحب الفئات القديمة فورياً، وإنما "مثلاً" طباعة فئات جديدة 10 آلاف و20 ألف و50 ألف مثلاً تسمح بتوفير سيولة كافية للتعاملات التجارية وتضمن عدم وجود موجة تضخم أو صدمة سيولة.
• ستساعد الدولرة الجزئية المعتمدة في تخفيف حجم السيولة اللازمة من الليرات الجديدة. ويمكن بعد شهر أو أكثر من طرح فئات 10 و20 و50 ألف البدء بإلغاء الفئات التي تسبب إشكالية نفسية فقط من فئة 1000 و2000 و5000.
• كما تمكن المركزي في عام 2018 من توفير خبرات وتجهيزات تسمح بسك النقود المعدنية (الخمسين مثالاً)، وطالما أن الحكومة لديها اليقين باستقرار التضخم والاقتصادية لتبرير تبديل العملة، سيكون من المفيد سك النقود المعدنية بالفئات النقدية الملائمة محلياً وتوفير مبالغ هائلة كانت ستصرف على القوالب والسك والنقل.
• أخيراً إن كان الهدف على الأمد الطويل الاستمرار بوجود دولرة جزئية (لا نعلم متى تنتهي؟) يستحق المخطط الانتقالي المذكور نقاشاً جدياً حول قدرته على حل المشاكل التي يعانيها الجميع في فحص وعد ونقل الأموال وقدرته على تخفيف الصدمات وتجنب تكاليف غير مبررة بالأخص لأهالي الأرياف والمعمرين وأصحاب الحرف الصغيرة
وإنما الأعمال بالخواتيم